فصل: قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويصف الحق تبارك وتعالى هؤلاء فيقول: {أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون}.
وهنا وقفة لإثارة سؤال هو: ما ذنب الأنعام التي تُشبه بها الكفار؟ إن الأنعام غير مكلفة وليس لأي منها قلب يفقه أو عين تبصر آيات الله أو آذان تسمع بها آيات الله. هي فقط ترى المْرعَى فتذهب إليه، وترى الذئب فتفر منه، وتتعود على أصوات تتحرك بها، وكافة الحيوانات تحيا بآلية الغريزة، ويهتدي الحيوان إلى أموره النافعة له وإلى أموره الضارة به بغريزته التي أودعها الله فيه، لا بعقله.
والإنسان منا لا يبتعد عن الضرر إلا حين يجربه ويجد فيه ضررًا. لكن الحيوان يبتعد عن الضر من غير تجربة بل بالغريزة، لأن الحيوان ليس له عقل وكذلك ليس له قدرة اختيار بين البديلات، وفطره الله على غريزة تُسَيّرهُ إلى مقومات صالحة، ومثال ذلك: أنه قد يوجد الحيوان في بيئة ما، ويعطي الله له لونًا يماثل لون هذه البيئة ليحمي نفسه من حيوانات أقوى منه.
ومثال آخر: نحن نعلم أن الحيوان مخلوق لينفع الإنسان، ولابد أن يتناسل ليؤدي ما يحتاج إليه الإنسان من ذرية هذا الحيوان ويمارس الحيوان العملية الجنسية كوسيلة للتناسل وليست كما هي في الإنسان، حيث تصير في بعض الأحيان غاية في ذاتها، بجانب أنها وسيلة للنسل. ولذلك نجد كثيرًا من ظواهر الحياة المتعلقة بالإنسان قد تعلمها من الحيوان مثلما قال الحق تبارك وتعالى: {فَبَعَثَ الله غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأرض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ...} [المائدة: 31].
إذن فالغراب مَهْدِيّ بغريزته إلى كل متطلباته، ولذلك نجد من يقول: كيف نشبه الضال بالأنعام؟ نقول: إن الضال يختلف عن الأنعام في أنه يملك الاختيار وقد رفع فوق الأنعام، لكنه وضع نفسه موضع الأنعام حين لم يستخدم العقل كي يختار به بين البدائل.
وبذلك صار أضل من الأنعام، وكلمة {أضل} تبين لنا أن الأنعام ليست ضالة، لأنها محكومة بالغريزة لا اختيار لها في شيء. لكن الكفار الذين ذرأهم ربنا لجهنم من الجن والإنس، لا يعرفون ربهم، بينما الأنعام، والجمادات والنباتات تعرف ربها لأن الحق يقول: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ...} [الإسراء: 44].
إذن فالأنعام تعرف ربنا وتسبحه وتحمده. وفي آية أخرى يقول المولى تبارك وتعالى: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ...} [النور: 41].
وعلى ذلك فكل الجماد- إذن- بعلم صلاته وتسبيحه.
ولذلك قصصنا قصة من قصص العارفين بالله حين يجلسون مع بعضهم البعض كوسيلة تنشيط إلى غايات وأهداف سامية. والعارف بالله من هؤلاء الصالحين يستقبل الأحسن منه في العبادة بالضحك، أما الأحسن منه في أمور الدنيا فيستقبله بالتكشير، وقال واحد منهم لآخر: أتشتاق إلى ربك؟ فرد عليه: لا.
تساءل الآخر: كيف تقول ذلك؟.
قال له: نعم. إنما يُشْتَاقٌ إلى غائب. {... أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون} [الأعراف: 179].
ولا تظنن أن الضلال لعدم وجود منهج، أو لعدم مُذَكِّر، أو لعدم وجود مُنْذرٍ أو مُبَشِّر. بل هي غفلة منهم، فالأمور واضحة أمامهم، لكنهم يهملونها ويَغُفلون عنها. اهـ.

.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا}.
هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ اللهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا أَيَّدَهَا بِهِ مِنَ الْآيَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ، وَهُوَ مَثَلُ مَنْ آتَاهُ اللهُ آيَاتَهُ فَكَانَ عَالِمًا بِهَا حَافِظًا لِقَوَاعِدِهَا وَأَحْكَامِهَا، قَادِرًا عَلَى بَيَانِهَا وَالْجَدَلِ بِهَا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُؤْتَ الْعَمَلَ مَعَ الْعِلْمِ، بَلْ كَانَ عَمَلُهُ مُخَالِفًا لِعِلْمِهِ تَمَامَ الْمُخَالَفَةِ، فَسُلِبَهَا؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي لَا يُعْمَلُ بِهِ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَزُولَ، فَأَشْبَهَ الْحَيَّةَ الَّتِي تَنْسَلِخُ مِنْ جِلْدِهَا وَتَخْرُجُ مِنْهُ وَتَتْرُكُهُ عَلَى الْأَرْضِ وَيُسَمَّى هَذَا الْجِلْدُ الْمِسْلَاخَ أَوْ كَانَ فِي التَّبَايُنِ بَيْنَ عِلْمِهِ وَعَمَلِهِ كَالْمُنْسَلِخِ مِنَ الْعِلْمِ التَّارِكِ لَهُ، كَالثَّوْبِ الْخَلِقِ يُلْقِيهِ صَاحِبُهُ، وَالثُّعْبَانُ يَتَجَرَّدُ مِنْ جِلْدِهِ حَتَّى لَا تَبْقَى لَهُ بِهِ صِلَةٌ، عَلَى حَدِّ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
خُلِقُوا وَمَا خُلِقُوا لِمُكْرُمَةٍ ** فَكَأَنَّهُمْ خُلِقُوا وَمَا خُلِقُوا

رُزِقُوا، وَمَا رُزِقُوا سَمَاحَ يَدٍ ** فَكَأَنَّهُمْ رُزِقُوا وَمَا رُزِقُوا

فَحَاصِلُ مَعْنَى الْمَثَلِ: أَنَّ الْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ اللهِ تَعَالَى الْمُنَزَّلَةِ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، عَلَى إِيضَاحِهَا بِالْحُجَجِ وَالدَّلَائِلِ، كَالْعَالَمِ الَّذِي حُرِمَ ثَمَرَةَ الِانْتِفَاعِ مِنْ عِلْمِهِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَمْ يَنْظُرْ فِي الْآيَاتِ نَظَرَ تَأَمُّلٍ وَاعْتِبَارٍ وَإِخْلَاصٍ.
وَهَاكَ تَفْسِيرُ الْآيَاتِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ نَظْمُهَا الْعَرَبِيُّ، وَيَتْلُوهُ مَا وَرَدَ مِنَ الرِّوَايَاتِ فِيهَا، وَنَظْرَةٌ فِيهَا: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ} مِنْهَا التِّلَاوَةُ: الْقِرَاءَةُ وَإِلْقَاءُ الْكَلَامِ الَّذِي يُعَادُ وَيُكَرَّرُ لِلِاعْتِبَارِ بِهِ، وَالضَّمِيرُ فِي {عَلَيْهِمْ} لِلنَّاسِ الْمُخَاطِبِينَ بِالدَّعْوَةِ، وَأَوَّلُهُمْ كُفَّارُ مَكَّةَ، وَالسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَقِيلَ: لِلْيَهُودِ؛ لِأَنَّ الْمَثَلَ تَابِعٌ لِقِصَّةِ مُوسَى فِي السُّورَةِ. وَالنَّبَأُ: الْخَبَرُ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ، وَهَذَا الَّذِي آتَاهُ اللهُ آيَاتِهِ مِنْ مُبْهَمَاتِ الْقُرْآنِ، لَمْ يُبَيِّنَ اللهُ وَلَا رَسُولُهُ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ عَنْهُ اسْمِهِ وَلَا جِنْسِهِ وَلَا وَطَنِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا دَخْلَ لَهَا فِيمَا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى الْآيَاتِ لِبَيَانِهِ، وَانْسِلَاخُهُ مِنْهَا: تَجَرُّدُهُ وَانْسِلَالُهُ مِنْهَا وَتَرْكُهُ إِيَّاهَا بِحَيْثُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا لِاهْتِدَاءٍ وَلَا اعْتِبَارٍ وَلَا عَمَلٍ، وَالتَّعْبِيرُ بِالِانْسِلَاخِ الْمُسْتَعْمَلِ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي خُرُوجِ الْحَيَّاتِ وَالثَّعَابِينِ أَحْيَانًا مِنْ جُلُودِهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْهَا ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا.
{فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} أَيْ: فَتَرَتَّبَ عَلَى انْسِلَاخِهِ مِنْهَا بِاخْتِيَارِهِ أَنْ لَحِقَهُ الشَّيْطَانُ، فَأَدْرَكَهُ وَتَمَكَّنَ مِنَ الْوَسْوَسَةِ لَهُ، إِذْ لَمْ يَبْقَ لَدَيْهِ مِنْ نُورِ الْعِلْمِ وَالْبَصِيرَةِ مَا يَحُولُ دُونَ قَبُولِ وَسْوَسَتِهِ، وَأَعْقَبَ ذَلِكَ أَنْ صَارَ مِنَ الْغَاوِينَ، أَيِ الْفَاسِدِينَ الْمُفْسِدِينَ.
{وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} أَيْ: وَلَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَرْفَعَهُ بِتِلْكَ الْآيَاتِ إِلَى دَرَجَاتِ الْكَمَالِ وَالْعِرْفَانِ، الَّتِي تُقْرَنُ فِيهَا الْعُلُومُ بِالْأَعْمَالِ: {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (58: 11)- لَفَعَلْنَا، بِأَنْ نَخْلُقَ لَهُ الْهِدَايَةَ خَلْقًا، وَنَحْمِلَهُ عَلَيْهَا طَوْعًا أَوْ كُرْهًا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُعْجِزُنَا، وَإِنَّمَا هُوَ مُخَالِفٌ لِسُنَّتِنَا.
{وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} أَيْ: وَلَكِنَّهُ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ التَّسَفُّلَ الْمُنَافِيَ لِتِلْكَ الرِّفْعَةِ بِأَنْ أَخْلَدَ وَمَالَ إِلَى الْأَرْضِ وَزِينَتِهَا، وَجَعَلَ كُلَّ حَظِّهِ مِنْ حَيَاتِهِ التَّمَتُّعَ بِمَا فِيهَا مِنَ اللَّذَائِذِ الْجَسَدِيَّةِ، فَلَمْ يَرْفَعْ إِلَى الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ رَأْسًا، وَلَمْ يُوَجِّهْ إِلَى الْحَيَاةِ الرُّوحِيَّةِ الْخَالِدَةِ عَزْمًا، وَاتَّبِعَ هَوَاهُ فِي ذَلِكَ فَلَمْ يُرَاعِ فِيهِ الِاهْتِدَاءَ بِشَيْءٍ مِمَّا آتَيْنَاهُ مِنْ آيَاتِنَا، وَقَدْ مَضَتْ سَنَتُنَا فِي خَلْقِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ بِأَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا فِي عَمَلِهِ الْمُسْتَعِدِّ لَهُ فِي أَصْلِ فِطْرَتِهِ، لِيَكُونَ الْجَزَاءُ عَلَيْهِ بِحَسَبِهِ، وَأَنْ نَبْتَلِيَهُ وَنَمْتَحِنَهُ بِمَا خَلَقْنَا فِي هَذِهِ الْأَرْضِ مِنَ الزِّينَةِ وَالْمُسْتَلَذَّاتِ {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (18: 7) وَتَوَلَّى كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مَا تَوَلَّى {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} (17: 18- 21).
وَقَدْ مَضَتْ سَنَتُنَا أَيْضًا بِأَنَّ اتِّبَاعَ الْإِنْسَانِ لِهَوَاهُ بِتَحَرِّيهِ وَتَشَهِّيهِ مَا تَمِيلُ إِلَيْهِ نَفْسُهُ فِي كُلِّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهِ، دُونَ مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ وَالْفَائِدَةُ لَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ جَسَدٌ وَرُوحٌ، يُضِلُّهُ عَنْ سَبِيلِ اللهِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيَتَعَسَّفُ بِهِ فِي سُبُلِ الشَّيْطَانِ الْمُرْدِيَةِ الْمُهْلِكَةِ. قَالَ تَعَالَى لِخَلِيفَتِهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} (38: 26) وَقَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ مَا أَوْحَاهُ إِلَى كَلِيمِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ ذِكْرِ السَّاعَةِ: {فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} (20: 16) وَقَالَ جَلَّ جَلَالُهُ لِخَاتَمِ أَنْبِيَائِهِ عَلَيْهِ صَلَوَاتُهُ وَسَلَامُهُ: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} (25: 43) وَالْآيَاتُ فِي ذَمِّ الْهَوَى وَالنَّهْيِ عَنْهُ كَثِيرَةٌ، وَحَسْبُكَ مِنْهَا قَوْلُهُ: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} (23: 71).
وَحَاصِلُ مَعْنَى الشَّرْطِ وَالِاسْتِدْرَاكِ: أَنَّ مِنْ شَأْنِ مَنْ أُوتِيَ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى أَنْ تَرْتَقِيَ نَفْسُهُ، وَتَرْتَفِعَ فِي مَرَاقِي الْكَمَالِ دَرَجَتُهُ، لِمَا فِيهَا مِنَ الْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ وَالذِّكْرَى، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِمَنْ أَخَذَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَتَلَقَّاهَا بِهَذِهِ النِّيَّةِ: «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَنْوِ ذَلِكَ لَمْ تَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ، وَإِنَّمَا تَلَقَّى الْآيَاتِ الْإِلَهِيَّةَ اتِّفَاقًا بِغَيْرِ قَصْدٍ، أَوْ بِنِيَّةِ كَسْبِ الْمَالِ وَالْجَاهِ، وَوَجَدَ مَعَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ مَا يَصْرِفُهُ عَنِ الِاهْتِدَاءِ بِهَا فَلَنْ يَسْتَفِيدَ مِنْهَا، وَأَسْرَعَ بِهِ أَنْ يَنْسَلِخَ مِنْهَا، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا فِي نَفْسِهَا هُدًى وَنُورٌ، وَلَكِنْ تَعَارَضَ الْمُقْتَضَى وَالْمَانِعُ، وَهُوَ إِخْلَادُهُ إِلَى الْأَرْضِ وَاتِّبَاعِ هَوَاهُ:
قَالُوا فُلَانٌ عَالِمٌ فَاضِلٌ ** فَأَكْرَمُوهُ مِثْلَمَا يَقْتَضِي

فَقُلْتُ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ عَامِلًا ** تَعَارَضَ الْمَانِعُ وَالْمُقْتَضِي

{فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} اللهْثُ بِالْفَتْحِ وَاللُّهَاثِ بِالضَّمِّ: التَّنَفُّسُ الشَّدِيدُ مَعَ إِخْرَاجِ اللِّسَانِ، وَيَكُونُ لِغَيْرِ الْكَلْبِ مِنْ شِدَّةِ التَّعَبِ وَالْإِعْيَاءِ أَوِ الْعَطَشِ، وَأَمَّا الْكَلْبُ فَيَلْهَثُ فِي كُلِّ حَالٍ، سَوَاءٌ أَصَابَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ حَمَلْتَ عَلَيْهِ تُهَدِّدُهُ بِالضَّرْبِ أَمْ تَرَكْتَهُ وَادِعًا آمَنَّا، وَهَذَا الرَّجُلُ صِفَتُهُ كَصِفَةِ الْكَلْبِ فِي حَالَتِهِ هَذِهِ، وَهِيَ أَخَسُّ أَحْوَالِهِ وَأَقْبَحُهَا، وَالْمُرَادُ وَاللهُ أَعْلَمُ- أَنَّهُ كَانَ مِنْ إِخْلَادِهِ إِلَى الْأَرْضِ، وَاتِّبَاعِ هَوَاهُ فِي أَسْوَأِ حَالٍ، خِلَافًا لِمَا كَانَ يَبْغِي مِنْ نِعْمَةِ الْعَيْشِ وَرَاحَةِ الْبَالِ، فَهُوَ فِي هَمٍّ دَائِمٍ مِمَّا شَأْنُهُ أَنْ يَهْتَمَّ بِهِ، وَمَا شَأْنُهُ أَلَّا يَهْتَمَّ بِهِ مِنْ صَغَائِرَ الْأُمُورِ وَخَسَائِسِ الشَّهَوَاتِ، كَدَأْبِ عُبَّادِ الْأَهْوَاءِ وَصِغَارِ الْهِمَمِ تَرَاهُمْ كَاللَّاهِثِ مِنَ الْإِعْيَاءِ وَالتَّعَبِ، وَإِنْ كَانَ مَا يَعْنُونَ بِهِ، وَيَحْمِلُونَ هَمَّهُ حَقِيرًا لَا يُتْعِبُ وَلَا يُعْيِي، وَلَا تَرَى أَحَدًا مِنْهُمْ رَاضِيًا بِمَا أَصَابَهُ مِنْ شَهَوَاتِهِ وَأَهْوَائِهِ، بَلْ يَزِيدُ طَمَعًا وَتَعَبًا كُلَّمَا أَصَابَ سِعَةً وَقَضَى أَرَبًا:
فَمَا قَضَى مِنْهَا أَحَدٌ لُبَانَتَهُ ** وَلَا انْتَهَى أَرَبٌ إِلَّا إِلَى أَرَبِ

{ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أَيْ: ذَلِكَ الْأَمْرُ الْبَعِيدُ الشَّأْوِ فِي الْغَرَابَةِ هُوَ مَثْلَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا مِنَ الْجَاحِدِينَ الْمُسْتَكْبِرِينَ، وَالْمُقَلِّدِينَ الْجَاهِلِينَ، كَذَّبُوا لِظَنِّهِمْ أَنَّ الْإِيمَانَ بِهَا يَسْلُبُهُمْ مَا يَفْخَرُونَ بِهِ مِنَ الْعِزَّةِ وَالْعَظَمَةِ بِاتِّبَاعِهِمْ لِغَيْرِهِمْ، وَيَحُطُّ مِنْ قَدْرِ آبَائِهِمْ وَأَجْدَادِهِمُ الَّذِينَ قَلَّدُوهُمْ فِي ضَلَالِهِمْ، وَيَحُولُ دُونَ تَمَتُّعِهِمْ بِمَا يَشْتَهُونَ مِنْ لَذَّاتِهِمْ، فَلِهَذَا الظَّنِّ الْبَاطِلِ لَمْ يَنْظُرُوا فِي الْآيَاتِ نَظَرَ تَفَكُّرٍ وَاسْتِقْلَالٍ، وَتَبَصُّرٍ وَاسْتِدْلَالٍ، بَلْ نَظَرُوا إِلَيْهَا- لَا فِيهَا- مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ أَنَّ اتِّبَاعَهَا يَحُطُّ مِنْ أَقْدَارِهِمْ، وَيُعَدُّ اعْتِرَافًا بِضَلَالِ سَلَفِهِمُ الَّذِينَ يَفْخَرُونَ بِهِمْ، وَيَحْرِمُهُمُ التَّمَتُّعَ بِحُظُوظِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ.
فَكَانَ مَثَلُهُمْ مَثْلَ الَّذِي أُوتِيَ الْآيَاتِ فَانْسَلَخَ مِنْهَا، وَذَلِكَ لَا يَعِيبُ الْآيَاتِ، وَإِنَّمَا يَعِيبُ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ الَّذِينَ حَرَمَهُمْ سُوءُ اخْتِيَارِهِمُ الِانْتِفَاعَ بِهَا، وَكَأَيِّنٍ مِنْ إِنْسَانٍ حُرِمَ الِانْتِفَاعَ بِمَوَاهِبِهِ الْفِطْرِيَّةِ بِعَدَمِ اسْتِعْمَالِهِ إِيَّاهَا فِيمَا يَرْفَعُهُ دَرَجَاتٍ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَكَأَيِّنٍ مِنْ إِنْسَانٍ اسْتَعْمَلَ حَوَاسَّهُ فِي الضُّرِّ، وَعَقْلَهَ وَذَكَاءَهُ فِي الشَّرِّ، وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ، فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أَيْ: فَاقْصُصْ أَيُّهَا الرَّسُولُ قِصَصَ ذَلِكَ الرَّجُلِ الْمُشَابِهَةِ حَالِهِ لِحَالِ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ فِي مَبْدَأِ أَمْرِهِ وَغَايَتِهِ، وَمَعْنَاهُ وَصُورَتِهِ، رَجَاءَ أَنْ يَتَفَكَّرُوا فِيهِ فَيَحْمِلُهُمْ سُوءُ حَالِهِمْ، وَقُبْحُ مَثَلِهِمْ عَلَى التَّفَكُّرِ وَالتَّأَمُّلِ، فَإِذَا هُمْ تَفَكَّرُوا فِي ذَلِكَ تَفَكَّرُوا فِي الْمَخْرَجِ مِنْهُ، وَنَظَرُوا فِي الْآيَاتِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ بِعَيْنِ الْعَقْلِ وَالْبَصِيرَةِ، لَا بِعَيْنِ الْهَوَى وَالْعَدَاوَةِ، وَلَا طَرِيقَ لِهِدَايَتِهِمْ غَيْرُ هَذِهِ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ شَأْنٍ ضَرَبِ الْأَمْثَالِ فِي تَأْثِيرِ الْكَلَامِ، وَكَوْنِهِ أَقْوَى مِنْ سُوقِ الدَّلَائِلِ وَالْحُجَجِ الْمُجَرَّدَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ شَأْنِ التَّفَكُّرِ، وَكَوْنِهِ مَبْدَأَ الْعِلْمِ وَطَرِيقَ الْحَقِّ؛ وَلِذَلِكَ حَثَّ اللهُ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلَ إِنَّمَا تُسَاقُ إِلَى الْمُتَفَكِّرِينَ؛لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَعْقِلُونَهَا وَيَنْتَفِعُونَ بِهَا.
وَقَدْ تَكَرَّرَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فِي عِدَّةِ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى ضَارِبًا مَثَلًا لِلْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْغُرُورِ بِهَا يُنَاسِبُ سِيَاقَنَا هَذَا: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (10: 24) وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْغَرْبِ: إِنَّ الْفَارِقَ الْحَقِيقِيِّ بَيْنَ الْإِنْسَانِ الْمَدَنِيِّ، وَالْإِنْسَانِ الْوَحْشِيِّ هُوَ التَّفَكُّرُ انْتَهَى. فَبِقَدْرِ التَّفَكُّرِ فِي آيَاتِ اللهِ تَعَالَى الْمُنَزَّلَةِ عَلَى رَسُولِهِ، وَآيَاتِهِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ، وَسُنَنِهِ وَحِكَمِهِ فِي الْبَشَرِ وَسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ، يَكُونُ ارْتِقَاءُ النَّاسِ فِي الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ، مِنْ دِينِيَّةٍ وَدُنْيَوِيَّةٍ.